الاثنين، ٢٠ نوفمبر ٢٠٠٦

حكاية من طوكيو ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


حكاية من طوكيو
قصة محمود البدوى

جلست فى قاعة الشاى بفندق دايتشى ذات يوم من أيام الخريف .. أتأمل فى الجمال المحيط بى وأتطلع إلى الوجوه الجديدة التى تدخل من الباب الدوار..

وكان البهو مزدحما بالنزلاء .. والفتيات العاملات يدفعن العربات الصغيرة المحملة بالحقائب فى نشاط لا يوصف ..

وكانت الأجراس تدق والمصاعد طالعة نازلة .. كل شئ يتحرك بسرعة عجيبة كخلية النحل ..

وفجأة سمعت الفتاة التى اعتادت أن تنادى على النزلاء بالميكرفون تصيح بالإنجليزية :
ــ مستر .. إبراهيم كامل .. مطلوب فى التليفون ..

فرفعت رأسى .. متعجبا وأنا أسمع هذا الاسم فى مدينة طوكيو .. ونظرت إلى آلة التليفون الموجودة بجوارى .. وركزت البصر .. وبرزت شابة .. وتناولت السماعة سريعا ..

وظلت تتحدث دقيقتين .. وكان صوتها ضعيفا فلم أسمع كلمة من حديثها.. ولكننى أدركت أن لها علاقة بالشخص المطلوب .. وبعد أن انتهت المحادثة دخلت من سياج الممر .. وجلست إلى مائدة قريبة منى فى قاعة الشاى .. وكانت متوسطة الطول بيضاء .. تقص شعرها الاجارسون وترتدى فستانا من قطعة واحدة قصيرا إلى الركبة .. ومنسجما مع قوامها الجميل ..

وكانت عيناها سوداوين .. ووجهها طويلا وعلى خدها الأيمن شامة سوداء .. كغرسة دبوس كبير تركت الخد يدمى ..
وكانت تدخن وتنظر مثلى إلى الباب الخارجى ..

وتركت كرسيها أكثر من مرة لتتحدث فى التليفون .. ثم عادت إلى المائدة نفسها .. وفى المرة الأخيرة بدا على وجهها القلق ..

وحوالى الساعة الواحدة بعد الظهر ظهر شاب نحيف القوام .. وجلس بجوارها .. وكان يرتدى حلة رمادية ذات خطوط بيضاء خفيفة .. ويضع على عينيه منظارا سميكا ..

وكان يبدو خجولا وعينيه أبدا متجهتين إلى الأرض كأنها تبحث عن شئ ضاع منه .. منذ لحظات ..

وأخذ يحادثها بلهجة أهل القاهرة بصوت جعلنى أسمع الحديث كله .. وحدثته هى عن شركة السياحة التى طلبته فى التليفون .. وعن الصباح الذى ضاع بنومه ..

وسألت فى استغراب :
ــ كيف ينام إنسان فى طوكيو إلى الظهر هل نحن فى حلوان .. ؟
وكانت مستاءة .. ثم ضحكت وأشعلت سيجارة ..
وبعد نصف ساعة خرجا معا من الباب الدوار ..

***

وفى الليل .. رأيتهما يتقدمان فى اللحظة التى تقدمت فيها إلى مكتب الإستقبال يأخذان مفتاح غرفتهما .. وسمعت رقم الغرفة .. وأدركت أنهما فى الطابق السادس .. وهو الطابق الذى أقيم فيه ..

وفى المصعد .. تعارفنا .. واستغربا وجودى فى هذه المدينة .. فقد كانا يتصوران أنهما المصريان الوحيدان فيها .. وسرا لأنهما وجدا مواطنا فى الفندق نفسه ووقفنا نتحدث بحكم العادة المصرية قليلا فى الممر .. ثم حييتهما وانصرفت إلى غرفتى ..

***

وفى صباح اليوم التالى وجدت رجاء .. جالسة وحدها تتناول الإفطار فى قاعة الطعام .. فحييتها وأخذت أبحث عن مائدة خالية .. فقد كان المطعم ممتلئا ..

وقالت برقة :
ــ تفضل .. هنا .. معى ..
ــ وإبراهيم بيه .. ؟
ــ إنه نائم .. وسيضيع عليه الإفطار ككل يوم ..
ــ ولماذا لم توقظيه ..؟
ــ أيقظته .. ولكنه فتح عينيه .. ونام ..
ــ لعله يسهر كثيرا ..
ــ أبدا .. إنه نام بعد أن تركتنا أمس بلحظات ولكن هذه هى عادته .. ومن الصعب أن يتخلص المرء من عادة متمكنة منه ..

ورأيت أن أغير مجرى الحديث فسألتها :
ــ هل أعجبتك طوكيو ..؟
ــ أجل .. إنها جميلة ... جميلة ..
ــ وإلى متى ستبقون فيها ..
ــ إلى أن تفرغ النقود .. وأنت ..
ــ إنى مسافر فى نهاية الشهر ..
ــ سيكون لدينا وقت طيب .. نقضيه فى صحبتك إذن ..
ــ شكرا جميلا .. وإلى أين تذهبان هذا المساء ..؟
ــ سننتظر ما يقرره الدليل .. فالغريب .. لا يعرف طريقه فى هذه المدينة..
ــ هذا صحيح .. اذهبا إلى الكوين بى .. وإلى جولان جنزا .. وإلى ملهى السفينة .. وملهى الحريم .. وكابريه ميماتسو ..
ــ كل هذا شاهدته ..؟
ــ بالطبع ..
ــ هل ترغب فى أن تشعل سيجارة ..؟
ــ مرسى .. إننى لا أدخن ..
ــ يضايقك الدخان ..؟
ــ أبدا ... خدى راحتك ..

ولما جاءت الفتاة بفاتورة الطعام .. قيدت الحساب .. على رقم غرفتى .. ولم تكن المسألة على بساطتها تستحق المعارضة من جانبها ..
فابتسمت وشكرتنى ..

وخرجنا إلى الصالة .. وأستأذنت بعد ساعة لتصعد إلى زوجها بعد أن حاولت إيقاظه .. بالتليفون أكثر من مرة .. ولكنها لم توفق .. وكنت فى طريقى إلى جامعة طوكيو .. فبارحت الفندق ..

***

وأصبحت أقابل رجاء كل صباح فى قاعة الطعام .. حوالى الساعة السابعة.. وكنا نفطر فى نصف ساعة .. ولما كنا لا نستطيع أن نجلس فى قاعة الشاى قبل الساعة التاسعة فقد كنا نخرج ونجول فى المدينة .. أو نركب المترو.. فى نزهة قصيرة .. ونعود سريعا إلى الفندق لنوقظ زوجها إبراهيم ..

وكانت تدق له التليفون من مكتب الاستقبال ولكنه كان لا يرد .. ولا ينهض من فراشه أبدا .. فتضطر أن تصعد إليه .. وتعود بعد دقائق قليلة كاسفة البال .. وهى تقول لى :
ــ اعمل معروف .. اصعد معى .. ربما يخجل منك ..

وكنت أكتفى بأن أصعد معها .. إلى الجناح الذى فيه الغرفة .. وأقف فى مكتب الاستقبال هناك فى أنتظارها حتى توقظه أو أتصل به بالتليفون .. لأنى كنت لا أحب أن أدخل على شخص غريب غرفته وأراه فى مباذله ..

وكان فى سبع حالات من تسع لا يصحو ولا ينزل معها ..
وذات مرة ألحت على إلحاحا شديدا .. لأدخل عليه الغرفة .. فوقفت على الباب .. ورأيته يفتح عينيه بثقل شديد ولا يكاد يرانى .. وقد وضع المخدة على رأسه المصدوع .. وتكور كالشراب البالى ..

واضطرب لما سمع صوتى ووعد بأن يلبس وينزل إلينا فى صالة الفندق بعد ربع ساعة وتركناه ونزلنا ننتظره ..

وفى ساعة انتظاره أخذت رجاء تحدثنى عن سبب رحلتهما .. كانا فى زيارة قريب لهما موظف فى إحدى شركات الطيران الكبيرة بنيودلهى .. فرتب لهما زيارة هونج كونج .. ومن هونج كونج وجدا الفرصة سانحة .. لزيارة طوكيو ..

ولم يكن إبراهيم فى أول الأمر يحب المدينة .. فلما عرفها ووجد فيها بغيته من الخمر .. والملاهى .. أحبها .. حتى أصبح لا يبغى الرحيل عنها ..

وقالت لى إن زوجها يشتغل محاميا .. فى القاهرة .. ولكنه لم يذهب إلى المحكمة.. أكثر من خمس مرات طول حياته كمحام .. فهو دائما يوكل قضاياه إلى زميل له .. وكلما عرضت قضية هو موكل فيها طلب زميله التأجيل .. حتى إن القاضى عرفه .. وبمجرد أن يراه يقول ضاحكا :
ــ تأجيل يا استاذ .. ؟

وقالت لى إن زوجها كسلان جدا .. ولكنه طيب جدا .. أيضا ..

ولم أكن قد كونت فكرة صحيحة عنه .. وكان كل الناس طيبين فى نظرى .. حتى وإن سببوا لنا المتاعب فهى طيبة كذلك .. وإن كانت قد أخذت تقيدنى فى هذه المدينة الكبيرة ..

وكنت من قبل أنطلق على هواى من الساعة الثامنة صباحا ..

ولكننى بعد أن التقيت بها أصبحت مقيدا بحركاتها ورغباتها ..

وكنا نحاول بكل الوسائل .. أن يخرج معنا زوجها .. فى جولة الصباح .. ولكن كانت محاولتنا كلها تضيع هباء ..

ولما أخفقت وسائلنا كلها لإيقاظه .. أصبحت أشفق عليها من تركها وحدها .. تجول حزينة متألمة .. فى هذه المدينة الضخمة ..

وكنت أحيانا .. أزوغ منها لأنى شعرت بأنها تقيد حريتى تماما .. فسألتنى:
ــ هل أصبحت أضايقك ..؟
ــ أبدا .. كيف تفكرين فى هذا ..؟
ــ لماذا الهروب إذن ..؟
ــ كان علىّ بعض الدراسات .. وقد فرغت منها ..
ــ إذن .. فلن تتركنى .. وحدى .. لأحزانى ..؟
ــ أبدا .. لن يحدث هذا مرة أخرى ..

وتألمت .. وأصبحت معها كظلها .. وعجبت للأيام التى تجمع شخصين ولا رابطة بينهما .. وتفرق بين شخصين وبينهما كل الروابط الاجتماعية ..

وكان زوجها طيبا .. وديعا .. وبرغم كل ما كانت تبذله من عناية ورعاية.. فكنت ألاحظ أنه لا يحبها ولا يقابل عواطفها بمثلها .. كان معها جافا خشنا وكان يعيش معها .. كما قدر لكل زوجين مختلفين فى الأهواء والمشارب .. يعيشان عيشة فارغة .. من كل إحساس بسعادة القلب ..

وعرفت منه أن والدته ماتت وهو صغير فى السادسة من عمره .. فأدركت لماذا فشل زواجه من رجاء .. فقد كان يحتاج إلى حنان الأمومة الرقيق .. ويود أن يضع رأسه على صدر أم ..

فلما تزوج رجاء وكانت فى الثامنة عشرة من عمرها ، قليلة الخبرة والتجارب لم تبادله الحنان الذى كان يتوق إليه ويرغب فيه .. وشعر بفراغ موحش .. ونفر من البيت حتى لا يراها وأخذ يسكر .. ويسكر ..

وكان همها كله ، كسائر الفتيات الصغيرات .. أن تلبس أجمل الثياب .. وتزهو على قريناتها بما لديها من جواهر نادرة ومعاطف الفراء الغالية التى تأتيها خصيصا من الخارج .. وأن تسكن فى فيللا أنيقة بضاحية مصر الجديدة.. وأن يكون فى البيت أكثر من سيارة .. وأكثر من خادم ومربية .. حتى وإن لم يكن عندهم أطفال ..

ثم ما لبثت أن تبينت أن هذا كله هباء .. وقبض ريح .. وأن الشئ الوحيد الذى كانت تبحث عنه والذى تزوجت من أجله لم تجده .. فعاشت فى عذاب مدمر لأعصابها ..

والواقع أنها كانت السبب فى شقائه .. كما كان هو السبب المباشر لتعاستها ..
ولكن لا شئ يمكن أن يفعله الإنسان أمام حكم القدر ..

ووجدا أخيرا .. أن خير ما يفعلانه هو أن يسافرا .. ولعل السفر يقرب ما بينهما من مسافة ولعله يرجعهما إلى بعضهما .. ويردهما زوجين حبيبين ..

***

وكنت أسر وأنا أجد إبراهيم .. خارجا من المصعد فى العصر وهو فى أحسن حالاته .. وراءه رجاء أكثر سرورا منه ..

ونجلس فى صالة الفندق قليلا لنشرب القهوة .. ثم نخرج ونجوس فى أنحاء المدينة .. ونزور المتاجر الكبيرة ومنها ننطلق إلى الملاهى .. أو نذهب إلى الاوبرا ..

وكنا بعد أن نخرج من الأوبرا .. نجارى رغبته فى أن يدخل حانة ــ لأن منعه من هذا كان مستحيلا علينا ــ ليشرب كأسا .. فما كنا نحب أن نتركه وحده مخافة أن يحدث له حادث وهو ثمل .. فى مدينة تنطلق فيها السيارات فى الليل كالصواريخ ..

وكنا نحاول بكل الوسائل أن نجعله يقلل من الشراب ما استطعنا .. ولكنه كان ما يلبث أن يندفع على هواه ، ويطلب ثلاثة كئوس معا .. وكنت أتألم وهو يغازل فتيات الحانات أمام زوجته .. وكانت هى تجلس جامدة المحيا .. ووجهها لا يعبر عما فى نفسها من ألم قاتل .. وكنت أحاول أن أخفف عنها وقع المسألة .. بأن اقلب الجو كله إلى مزاح ومرح .. ولكنها كانت تفهم أننى أمثل أمامها هذه المسرحية وكان هذا يزيد الموقف حرجا .. ويزيدنا شعورا بالتعاسة التى يضع الإنسان فيها نفسه من حيث لا يحتسب ..

***

وذات ليلة انفلت منا إبراهيم .. ونحن فى ملهى .. ألكروف .. وخرجنا نبحث عنه ووجدناه فى ملهى الحريم .. وكان جالسا مع جارية حسناء كأنها من جوارى هارون الرشيد .. وتلبس ثياب الجوارى نفسها .. وزادها الثوب الشرقى فتنة على فتنتها ..

وكان المكان شاعريا وهادئا .. ولكن إبراهيم كان ثملا .. ويحاول لثم الفتاة فى صدرها .. وهى تدفعه عنها بدلال ..
وحاولت أن أمنع زوجته من رؤية هذا المشهد ..
ولا أدرى أشاهدته أم لا .. ولكن الشئ الظاهر لى أن وجهها ظل محتفظا بهدوئه ..

وخرج إبراهيم معنا .. والفتاة تتعلق به حتى الباب وكانت كاشفة عن كل مفاتنها وكل صدرها .. وتصورت أن رجاء صديقتى .. ولذلك لم تقلع عن مجونها إلى آخر لحظة ..

***

وكان الفندق قريبا منا .. فرأينا أن نقطع المسافة على أرجلنا .. وبعد خطوات قليلة ـ وكنت أسير متأخرا عن الزوجين ـ برز لى شاب يابانى .. يرتدى معطفا قصيرا أبيض .. وعرض أن يرينى مشاهد خاصة فى طوكيو .. وقابلته بالرفض ولكنه ظل يلاحقنى ويعرض مباذله ..

ورأيت أن أتأخر عن رجاء وإبراهيم بضعة خطوات حتى لا تسمع رجاء كلام الشاب .. وحتى لا يخدش حياءها وصرفته أخيرا .. بعد أن ظل يلاحقنى فترة طويلة .. وتحت نفق المترو ..

ورأيت سربا من الحسناوات اليابانيات من بنات الليل .. وهن فى حفل من الزينة .. وكانت وجوههن جميعا ... كأنها مطلية بالكريم الأبيض .. اللامع .. وكن مستغرقات تحت البواكى وملتصقات بالحائط ..

وكن فى معاطف من الفراء من كل الألوان .. وصحن بى بالإنجليزية واليابانية :
ــ تعال يا شاب .. نقضى ليلة ممتعة ..
فمررت مبتسما دون أن أبادلهن الكلام ..

ورأيت واحدة منهن حلوة ورقيقة المشاعر .. وكانت تقف دائما وحدها تحت باكية قريبة من الفندق صامتة .. وتكلمنى وأنا مار عليها بعينها دون أن تنطق حرفا .. وكانت صامتة فى وقفتها ولكنها متألقة .. ورفعت وجهى إليها هذه الليلة والتقت عيوننا بضعة ثوان .. ثم تركتها .. ودخلت الفندق لألحق بالزوجين ..

ووجدتهما ينتظران المصعد .. وصعدنا معا .. وقبل الدور الرابع ظهر على إبراهيم التعب ولم يستطع الوقوف .. فجلس على أرض المصعد .. وأغمض عينيه .. ونظرت إلىّ رجاء بتوسل وقد أصبح لون وجهها كالقرمز ..

وتعاونت مع عامل المصعد فاستند علينا حتى بلغنا به باب غرفته .. واضطررت لأول مرة أن أدخل غرفة الزوجين .. ووضعناه فى الفراش .. وخلعت رجاء سترته ودثرته .. وأغلق عينيه فخففت له الضوء فى الغرفة .. وبقيت معها قليلا ثم سلمت عليها وخرجت ..

ولكن بعد أن خلعت بذلتى وتهيأت للنوم .. سمعت نقرا على بابى .. ولما فتحته وجدت رجاء وعلى وجهها الذعر ..

وقالت باضطراب :
ــ إن إبراهيم يموت ..
ولما دخلت عليه .. كان وجهه يحكى وجوه الموتى .. فاضطربت ..
ورفعت السماعة .. وطلبت من مكتب الاستقبال أى طبيب ..
وقبل أن يجىء الطبيب .. تقيأ .. على حجر زوجته .. وحنت عليه .. ولم تتأفف من فعلته ..

وشعرت فى هذه الساعة بعطف شديد عليها .. وبغيظ يحملنى على ضربه ..

ولما جاء الطبيب .. أسعفه بالعلاج وطمأننا .. وقال لنا إنه فى الصباح سيكون فى أحسن حالاته ..

وجلست وبجوارى رجاء فى حجرة الفندق الصغيرة .. وأمامنا الرجل .. الذى عرفته من أيام فقط وتوطدت المعرفة إلى صداقة بسببها هى .. وبسبب ما وجدته فيه من طيبة .. تجل عن الوصف ... وكان المريض قد نام .. وبقيت أنظر إلى رجاء فى صمت .. مخافة أن يوقظه حديثنا ..

وكان جهاز التكييف يشتغل فى الغرفة ونحن غير منتبهين إليه من غمرة ما مر بنا من ذعر واضطراب على المريض .. ولم تشأ رجاء .. أن تتعب أحدا من خدم الفندق فى هذه الساعة المتأخرة من الليل .. فصعدت .. على الكرسى.. لتوقف الجهاز ..

ولا أدرى لماذا رفعت رأسى .. وأخذت أرقبها وهى تقوم بهذا العمل ..

هل كنت أخشى عليها من السقوط .. أم لأنى كنت أتحرك بإحساس لا أقوى على رده ..

ورأيت ذيل قميصها التحتى .. ورأيت كل ساقيها .. وما فوق الركبة .. ونكست رأسى .. أمام كل ما رأيته من فتنة .. كراهب تاييس .. وهو يدخل عليها المخدع لأول مرة ..

وعندما أوقفت الجهاز ونزلت .. جلست بجوارى صامتة .. وكانت مضطربة وتعانى مثل صراعى .. وما هو أشد منه .. فاعترانا وجوم مطبق .. وخيل إلينا فى غمرة هذا الصمت الأخرس .. أن المدينة الكبيرة التى لا تنام أبدا .. قد توقفت كل حركة فيها .. من أجل صمتنا ..

وخرجنا من هذا الصمت .. عند ما تحرك إبراهيم فى فراشه بحركة عصبية ووقع الغطاء .. وتململ فكأنه سيسقط .. فذهبنا إليه فى وقت واحد .. ودثرناه .. وتحت الغطاء لامست يدى يدها .. فألقتها تحت يدى .. والتصقت بها .. وشعرت فى هذه اللحظة بأنها كانت فى حاجة إلى هذه اليد الغريبة .. لتمسح على يدها بحنان ..

وأحسست بنار تكوينى ولكننى لم أستطع أن أبتعد عنها ولم تلاحظ رجاء الرجفة التى اعترتنى وكنت أرتدى الروب .. على البيجامة .. وقد جعلنى هذا أشعر باضطراب أكثر .. وأبديت لها رغبتى فى أن أخرج لأرتدى بدلتى ..

فقالت باستغراب :
ــ لماذا .. لقد قربنا من الصبح ..؟
ــ ربما جاء الطبيب مرة أخرى .. ولا أحب .. أن يرانى بهذه الملابس ..
ــ استرح .. ويكفيك تعبا .. إنه بخير ..
ــ ربما نمت ..
وتركتها .. وعدت إليها بعد ربع ساعة مرتديا بذلتى ..
وخمدت بهذه الحركة الصراع الذى كان يعصف بكيانى ..

وفى اليوم التالى كانت صحة إبراهيم قد تحسنت ولكنه لم يخرج من الفندق طول اليوم .. وفى الليل أبدت رجاء رغبتها .. فى أن تجول فى المدينة .. وكنت لا أحب أن أخرج معها فى هذه الليلة وفى الوقت نفسه .. لا أحب أن أتركها تذهب وحدها ..
وبعد جذب وشد وجدنا نفسينا نسير فى الطريق ..
وعبرنا النفق .. ثم اتجهنا إلى الترعة التى تشق المدينة .. وعلى حافتها وجدنا مقهى صغيرا .. فجلسنا قريبا من الماء .. نرى البالونات الحمراء والخضراء والزرقاء والبنفسجية .. تتراقص على صفحة الغدير .. ومصابيح الورق من كل الألوان تشع نورا يبهج النفس ..

كانت وجوه الفتيات العاملات .. مشرقة وفى أحسن زينة .. والشعر أسود لامعا ..

وكان المكان هادئا .. وانتحينا جانبا .. كأننا نختار خلوة عاشقين ..

وكانت صورة إبراهيم .. تروح وتجئ فى رأسى وأنا جالس مع زوجته .. وظل حديثنا يسير على وتيرة واحدة مملة .. وكانت تثيرنى وتحاول أن تعرف مكنون قلبى .. ولكننى كنت ألف وأدور كالساقية الفارغة دون أن أعطيها أى شئ يشفى غليلها ..

وخرجنا مرة أخرى إلى الطريق .. ووجدنا بجوار محطة المترو ... فى حى شمباسى .. مطاعم صغيرة شعبية .. تشوى اللحم .. على النار الخافتة ، فوقفنا .. نأكل مع الواقفين ..

وقالت بابتهاج :
ــ لم أشعر .. بمثل هذه الأكلة الشهية فى حياتى ..
وكان شعورى بالمثل .. ولكننى لم أعقب واكتفيت بالابتسام ..

واشتريت تفاحتين .. بثمانين ينا .. وكان البائع مهذبا .. ويريد أن يلفهما فى ورق ناعم .. فلما قضمنا منها أمامه ضحك .. وشيعنا بانحناءاته المتكررة ..

وكانت أنوار السيارات القوية .. تغشى البصر وكنا لا نستطيع أن نتجاوز الرصيف قيد شعرة .. لأننا لو تركناه سنكون عرضة لحوادث السيارات ..

وكنا نشاهد ونحن ماشيان على الرصيف الغانيات .. متزينات .. ولابسات الفراء .. وفى انتظار الرجل .. فى المواقف التى اخترنها لأنفسهن .. ولم يوجهن إلىَّ أى كلام وأنا مار وبجوارى رجاء ..

وفى محل للحلوى وقفت أشترى شيئا .. ولما عدت وجدت رجاء .. واقفة مع الشاب اليابانى اللابس المعطف الأبيض الذى اعترض طريقى منذ أيام .. ولما رآنى اقترب ابتعد عنها .. ولم أشأ أن أسألها بما دار بينهما من حديث ..

***

وفى الصباح خرجنا نجول فى المدينة نحن الثلاثة وتأخرنا وتغدينا فى الخارج وعدنا نستريح فى الفندق ..

ونزلت إلى قاعة الشاى بعد الساعة السابعة ... ومرت على وأنا جالس رجاء .. وجلست قليلا ثم نهضت وقالت لى انها ذاهبة تشترى شيئا لإبراهيم من محل دايمارو ..

وفكرت فى جولة شاعرية فى المترو الذى تحت الأرض .. وحدى فى الليل الحالم .. وسرت قليلا فى حى جنزا .. ومن هناك نزلت لأركب المترو ..

وهناك فى المحطة وجدتها تركب المترو مع الشاب ذى المعطف الأبيض .. ولم أكن أعرف إلى أين هى ذاهبة معه .. وأدركت أن الفضول والحرمان هما اللذان دفعاها إلى هذه المغامرة ..

وجلست منزويا أراهما ولا يريانى .. .. وفى المحطة التى نزلا فيها .. نزلت .. وجعلت لقاءهما مصادفة .. وأحمر وجهها ولم تنبس .. ومشت بجوارى صامتة وزاغ الدليل ..

وعندما رجعنا إلى الفندق .. كنا كأنما عائدين من تشييع جنازة ..

***

وفى صباح اليوم التالى .. تقابلنا وحيتنى فى فتور .. وقال لى زوجها إنها تشكو من زمن من روماتزم فى الساق .. واشتد عليها أمس حتى إنها لم تنم قط .. واقترحت عليهما فتاة من العاملات فى الفندق أن يذهب بها إلى حمام تركى مشهور .. لعلاج مثل هذه الحالة .. واتفقنا على أن نذهب ثلاثتنا فى الساعة الخامسة مساء .. وأن نتقابل قبل ذلك فى بهو الفندق ..

ولما عدت إلى الفندق فى الساعة المحدودة .. لم أجد زوجها ووجدتها هى.. وقالت لى انه خرج فى جولة سياحية نظمتها شركة من شركات السياحة .. على أن يعود فى الساعة الرابعة .. وانتظرنا إلى السادسة .. وأصرت على أن تذهب إلى الحمام .. وخوفا من أن تلجأ إلى الدليل .. رافقتها إلى هناك ..

وتصورت الفتاة التى فى الاستقبال أننا زوجان .. فأدخلتنا فى مكان واحد .. ولكن عندما أخذت رجاء تخلع ملابسها فى الغرفة الداخلية .. خرجت هاربا.. وجلست فى البهو الخارجى أحتسى القهوة .. وخرجت رجاء وهى حافية ومدثرة بالبرنس تبحث عنى .. فلما وجدتنى بكامل ملابسى وأحادث العاملة على الباب بالإشارة ..

سألتنى :
ــ لماذا لم تذهب إلى الحمام ..؟
ــ سآخذ حماما سريعا ساخنا بعد لحظات .. وأنتظرك هنا ..

ومشت رشيقة .. تتأود أمامى وقد حلت البرنس .. قبل أن تدخل من باب الحمام فأغلقت عينى ..

وجاءت بعد ساعة مشرقة .. باسمة .. كأنها ولدت من جديد .. وغسلت كل أحزانها وسألتنى بدلال :
ــ هل التى كانت معك فى الحمام فتاة ..؟
ــ بالطبع ..

ولم أقل لها إنى لم أدخل الحمام ولم أتحرك من مكانى وسألتها :
ــ وأنت ..؟
ــ رجل بالطبع ..
وشعرت بأنياب حادة تنهش لحمى ..
ــ رجل .. وتقبلين هذا ..؟
ــ ولم لا ..؟ انها رياضة ..

وشعرت بالنار .. وكنت أعرف أنها تكذب وأنه لا يوجد رجل فى الحمام ..
ولكننى كنت أود أن أعود إلى المكان لأستوثق من ذلك ..

وتعشينا فى الخارج .. ولما عدنا إلى الفندق وصعدنا إلى غرفتها وجدنا إبراهيم نائما ... ودخلت هى الغرفة .. ووقفت على الباب معتمدا على الأكرة ..

وقالت برقة :
ــ أدخل نتحدث برهة ..
ــ إنى تعب .. سأنام ..

وكانت النار لا تزال مشتعلة فى رأسى .. وأغلقت عليها الباب .. ونزلت.. وخرجت إلى الطريق وهناك وجدت المرأة الوحيدة تقف تحت الباكية كأنها فى انتظارى ..

واستقبلتنى بابتسامتها ووداعتها وصمتها .. وتأبطت ذراعها وعدت بها إلى الفندق ..

***

ولما صعدت بها إلى الطابق الذى فيه غرفتى .. وفتحت الباب سمعت فى اللحظة نفسها بابا آخر يفتح من الداخل .. وأطلت منه رأس رجاء .. ولمحتنا ونحن ندخل .. ولكننى تجاهلت المسألة .. وأشعلت النور الجانبى ..

وأخذت المرأة اليابانية .. تفك أزرار معطفها ..

=================================
نشرت القصة بمجلة الجيل 12/1/1959 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " و بمجموعة " قصص من اليابان " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===============================

ليست هناك تعليقات: