الاثنين، ٢٠ نوفمبر ٢٠٠٦

فتاة من جنزا ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


فتاة من جنزا
قصة محمود البدوى

سكان طوكيو تسعة ملايين منهم ربع مليون على الأقل يلعبون القمار بحى شمباسى .. فى لعبة جهنمية ليس لها ضريب ..

آلة أتوماتيكية تسقط فيها القطعة من العشرة ينات فتأتى لك بخمسين قطعة فى لمح البصر .. بشرط أن تقطع أنفاسك وأنت تحركها وتلمس بأصابعك لولبها ..

وقد تسقط فيها مائة قطعة ولا يأتى لك شىء أبدا .. ولا تسمع أى رنين للعملة على الإطلاق .. ومع ذلك تظل واقفا تلعب .. وبجانبك مئات الآلات.. ومئات من المهووسين مثلك يراودهم الأمل للكسب السريع .. ولشىء يعجز عن تعليله حتى أدلر ..

تستغرق فى اللعبة وتنسى نفسك .. وتستمر فى المقامرة فى هوس المخبول غافلا عن كل شىء ناسيا الطعام والشراب إلى الصباح .. ملتذا بضجيج الآلات وحركتها الأتوماتيكية وهى تبلع الينات وتفتح فاها لتصيح هل من مزيد ..

رأيت هذا المكان وأنا أعبر الطريق متجها إلى حى ، جنزا .. وسحرنى جوه الغريب والضجيج المنبعث منه ورأيت اللاعبين واقفين أمام الآلات لا يبرحونها لحظة كأنما ربطوا بها بسلاسل من حديد ..

وبارحت الملعب وعدت إليه بعد أربع ساعات .. فرأيت نفس الوجوه واقفة على الآلات وقد انتابتها حمى اللعب ..

والغالبية من هؤلاء المقامرين لم تكن تكسب أى شىء على الإطلاق .. وكانت تذهب لتحرق أعصابها وتمزق روحها ..

وأخذت أدور فى الملعب كما يدور الفراش حول النار .. وكنت أود أن أدخل فى الصف .. ولكنى لم أجد آلة واحدة خالية .. كانت كلها مشغولة.. عن يمينى وعن يسارى وفى كل صف وقف الرجال والنساء فى استغراق عجيب ..

وغادرت المكان واتجهت إلى الشارع الخلفى .. وأنا أضرب فى الأرض على غير وجهة فى ليل طوكيو الحالم .. وكانت البالونات تدور فى سماء المدينة متألقة زاهية .. ورأيت الساعة المضيئة فى البرج تقترب عقاربها من نصف الليل ..

وأخذ الجو يبرد ولم أكن أرتدى معطفا .. فبدا لى أن أذهب إلى الفندق .. وكان قريبا لألبس معطفى ثم أعود ..

واجتزت نفق المترو .. وتحت الضوء الشاحب .. برزت لى فتاة .. وكنت أتصور .. أنها تقف تحت الباكية .. تستهوى المارة كما تفعل الفتيات فى هذا المكان .. ولكنى لمحت بابا صغيرا من الزجاج الملون عليه ستار كثيف .. فأدركت أن الفتاة خرجت من هذا الباب ..

وابتسمت لى وأحنت رأسها وقالت برقة :
ــ تفضل ..
وحركت لى الباب .. فدخلت دون تردد وكان المكان من الصغر .. بحيث تحيرت كيف يمكن أن يقوم ملهى فى برميل ..
كان أجوف ومستديرا كالبرميل تماما ..

وصدم بصرى أول ما توسطت القاعة شاب يابانى .. يجلس أمام البنك وأمامه فتاة تساقيه الشراب فى هذا الجو الشاحب ..

وكانت الستر مسدلة على النوافذ والرسومات تزين المكان .. والبالونات الصغيرة المضيئة من كل الألوان تسبح فى الجو ..

والضوء المغشى يضفى ظلا جميلا على الأركان تستريح إليه العين والنفس.. وشممت رائحة العنبر .. وأنا أجلس على كرسى مغطى بالقطيفة الحمراء .. وأمامى منضدة مزركشة عليها مصباح بلورى يلقى سائلا من الشعاع الأزرق على هذا الركن الصغير .. وعلى وجه الفتاة التى ردت الباب وجلست أمامى تحيينى فى رقة .. لقد كانت الفتاة الأخرى تعد الشراب وتجالس الزبون اليابانى ..

وكان الكومينو يضم جسما دقيق التكوين بالغ الحد فى الدقة والوجه الصغير .. فيه شحوب العذراء التى تسهر الليل قبل الأوان ..

وكان أنفها الدقيق يكاد يلامس أنفى .. وهى تسألنى فى صوت خافت بإنجليزية سليمة :
ــ ماذا تشرب .. ؟
ــ كأس من النبيذ ..
ــ ألا تشرب الساكى .. ؟
ــ إنه ينزل فى جوفى كالنار ..

فابتسمت فى نعومة تجذب القلب .. وغابت وراء باب خلفى .. وتركتنى وحيدا أمام نظرات الشاب وزميلته ..

وكان اليابانى ربع القوام عريض الصدر .. فى يده سيجارة وأمامه كأس نصف ممتلئ .. والفتاة طويلة ملساء العود تلبس كومينو أزرق وشعر رأسها معقوص فوق جبينها كالتاج .. ولم تكن تشرب وكانت نظرات عينيها تقع على وجهى من حين إلى حين ثم تعود تؤانس صاحبها ..

وجاءت رفيقتى .. ووضعت الكأس وأنا أنظر إلى شعرها المتموج الشديد السواد ..

وسألتنى بدماثة :
ــ أقادم من مانيللا .. ؟
ــ من هونج كونج ..
ــ إيه .. إنها مدينة جميلة .. كما سمعت ..
ــ أجمل المدن .. بعد طوكيو ..
ــ أعجبتك طوكيو .. ؟
ــ إنها عروس المدن جمعاء .. وأنت أجمل من رأيت فيها من النساء ..
ــ أهذا إطراء .. ؟
ــ أبدا .. إننى أقول الحقيقة .. ولولا أن بهرنى جمالك .. مادخلت إلى هنا على التو ..
ــ هل زرت قصر الإمبراطور .. وبرج طوكيو .. وجنزا .. ؟
ــ زرتها كلها .. وأنا الآن أعاود التجول فى جنزا ..
ــ سائح .. ؟
ــ أجل ..
ــ وهذه أول مرة .. ؟
ــ أول مرة ..
ــ ستبقى طويلا .. ؟
ــ شهرا ..
ــ شهر لا يكفى .. ابق شهرين ..
ــ والنقود .. ؟
ــ سأريك الأماكن الرخيصة .. وستصرف القليل .. طوكيو ليست غالية ..
ــ هذا صحيح .. إلا شيئا واحدا ..
ــ ما هو .. ؟
ــ الخمر من أيدى الحسان ..
ــ لا تشربها إذن ..
وكانت تبتسم لى مفترة الشفتين ..
ــ سأشربها من يد ..
ــ جينا ..
ــ اسم جميل .. من جينا الحسناء فقط ..
ــ ستأتى كل ليلة .. ؟
ــ كل ليلة ..
وكان صوتها يفيض حنانا ..
ــ ما اسمك .. ؟
ــ مصطفى ..
ونطقته .. ثلاث مرات بصعوبة وهى تضحك ..
ــ مهندس .. ؟
ــ فى الواقع كل المهن التى تخطر على البال ..
ــ أقرأ هذا فى خطوط يديك ..
ــ أو تقرأين الكف .. ؟
ــ قراءة جيدة .. أعطنى يدك ..

ووضعت يدى فى يدها .. وكانت يدها رخصة ناعمة .. واقتربت منى بعينيها الباسمتين وأنفاسها المعطرة .. وقالت كلاما كثيرا لم أعره التفاتة .. وكنت أنظر إلى عينيها وهى تتحدث وفى صوتها نفس النبرات المثيرة .. وأشتم رائحة لحمها .. وكانت تحرك يدى فى راحتها وتنظر إلى نظرة لا يخطئها رجل ..

وسألتنى :
ــ أفهمت كل ما قلته .. ؟
ــ بالطبع ..
ــ ماذا قلت .. ؟
ــ إننى أحب فتاة فى حانة ...
ــ أهذا كل ما قلته .. ؟
ــ هذا زبدته ..

وضحكت وأخذنا نتحدث .. وكان الشاب اليابانى يتابعنا بنظراته ويقترب بأذنه كأنه ينصت لحديثنا .. فأخرجت ورقة بخمسة آلاف ين .. وأنا أفكر فى القمار .. فى الآلة الجهنمية ..

وسألتنى :
ــ لماذا أنت مستعجل .. والليل طويل وأنت وحيد فى المدينة ..
ــ تجولت كثيرا .. وأحس بالتعب ..
ــ ومتى أراك .. ؟
ــ غدا .. سأجىء بعد العاشرة مساء ..
ــ حقا .. ؟
ــ حقا ..

وسلمت عليها وخرجت من المكان والليل فى هزيعه الثانى .. وقد خفت حركة المواصلات ولكن المدينة ظلت ساهرة تتألق بأنوارها الساطعة ..

***

ولما دخلت ملهى القمار كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا وألفيت اللاعبين وقوفا على تلك الآلات الجهنمية ولكن الزحام قد خف .. وأشبعت رغبتى فى اللعب .. وأنا أتلذذ من الانفعال الذى كان يصيبنى بعد كل ضغطة على الزر .. ولقد عجبت جدا لطباع الإنسان وهوسه ..

وكانت قد انقضت ساعة كاملة وأنا ألعب دون أن أكسب شيئا .. وكلما هممت بالانصراف يعاودنى الأمل فى الكسب فأبقى وألعب ..

وانتابتنى حالة من الهياج وأنا أقرع الآلة بعنف بآخر قطعة فى جيبى من ذات العشرة ينات ..

وسمعت من ورائى بعد هذه الحركة صوتا هادئا يسألنى :
ــ هل خسرت كثيرا .. ؟
ــ كل ما معى من قطع برونزية ..
ــ وتريد أن تستمر فى اللعب .. ؟
ــ سأفك ورقة بمائة ين .. وألعب بها فإن خسرتها .. لن ألعب بعدها أبدا ..

وابتسم الرجل وهو يسمع منى هذا الكلام .. كان يعرف أننى لا أستطيع أن أنفذ هذا الوعد وأن المقامر لا إرادة له ..
وفككت الورقة ..

ولما هممت بأن أضع أول قطعة من البرونز فى ثقب الآلة سمعت الرجل يقول بصوته الهادئ :
ــ أتسمح بأن ألعب لك هذه المرة .. ؟

ووجدته يتقدم نحو الآلة .. فناولته القطعة ووضعها بيده وضغط على الزر ضغطة خفيفة .. ضغطة خبير .. فتساقطت مئات القطع .. فى الخزان ..

فقال وقد غلبه السرور :
ــ اجمع .. حظك ..
ــ إنها نقودك ..
ــ ألم أقل لك بأنى سألعب من أجلك .. خذ نقودك ..

وسألته وأنا أضع النقود فى جيبى ..
ــ هل أنت محظوظ دائما ..؟ وتكسب من أول جولة .. ؟
ــ إننى أكسب عندما ألعب للآخرين ..
ــ ولنفسك .. ؟
ــ لا أكسب قط ..
ــ لماذا .. ؟
ــ المسألة .. كقانون الجاذبية .. وتحتاج إلى شرح طويل ..
ــ هل هناك ما يمنع من شرحها لى .. خصوصا وأننى خسرت كثيرا هذه الليلة .. ؟
وضحك الرجل ..
ــ لست أول خاسر .. وأخاف إن شرحتها لك أن يلازمنى النحس دوما وأفقد السيطرة على الآلة فأرجو أن تعفينى .. وسيظل الأمر سرا مغلقا .. وأنت تعرف هواجس المقامر ...

وابتسم المستر تاكاشى الذى فى رأسه تجارب رجل الخمسين فى رقة وهو يقول هذا وتحرك بجسمه وكان ربعة وثيق التركيب عريض الصدر حتى تصورته يشتغل بالمصارعة ..

وقلت له وقد أحسست بالرغبة فى أن أجازيه على صنيعه .. وكنت قد شعرت بالجوع لأنى تعشيت فى الساعة السابعة ..
ــ هل تسمح بأن نشرب كأسين من النبيذ .. ونأكل شيئا ..
ــ لا بأس .. بشرط أن نذهب إلى مطعم شعبى .. فلا أحب أن أكلفك كثيرا ..

وخرجنا إلى الشارع .. وفى مطعم صغير .. جلسنا إلى مائدة من الرخام وجاءت شابة ترتدى المعطف الأبيض لتخدمنا ..

وكانت صبوحة الوجه ضاحكة .. فطلبنا نبيذا .. ولحما مشويا على النار وشوربة ساخنة ..

وسألت تاكاشى على الطعام :
ــ هل هذا هو المكان الوحيد الذى يلعب فيه مثل هذه اللعبة فى طوكيو..؟
ــ إنه أشهر مكان ..
ــ وهل تلعب فيه كثيرا .. ؟
ــ إنى دائم التردد عليه .. بعد قنبلة نجازاكى ..

وعلا وجهه السهوم فأطرق وهو يدير الكأس بين يديه ..
ثم استطرد :
ــ وجدته المكان الوحيد الذى أقضى فيه الليل .. مستغرقا وملتذا باللعبة نفسها .. ولم يكن فى مقدورى أن أفعل شيئا آخر ..
ــ هل خسرت تجارتك فى الحرب ..
ــ فقدت زوجتى .. وكانت كل شىء بالنسبة لى .. عروس فى شهرها الثانى .. ولم تصب بإصابة مباشرة ولكنها عانت من تأثير صدمة نفسية قاسية .. وعاشت أسبوعا فى عذاب لا يوصف ولا يحتمله بشر ثم ماتت فى ساعة رهيبة وأنا الآن أجتر الذكريات ..
ــ وما زلت تذكر الحادث .. ؟ .. رغم مرور كل هذه السنين .. ؟
ــ أجل كأن الأمر حدث بالأمس ولا زال فى أذنى الدوى المرعب .. ولقد تعذبت المسكينة طويلا وكانت أنضر من رأيت من النساء .. هل شاهدت (الكوين بى) ورأيت البنات الجميلات هناك فى هذا المرقص .. أحلى بنات طوكيو .. ولكن زوجتى كانت أجمل من هؤلاء جميعا .. لم يكن هناك من هو فى مثل جمالها ونضارتها ..

ولقد حصلت معها على أكثر مما حلق له خيالى .. عرفت طعم الحب .. وطعم السعادة .. تزوجنا على حب ملتهب جارف .. ثم أنبت هذا كله .. وأنسلخ فى لحظة دامية ..

ولقد أحسست بعذاب لا يوصف .. فكنت أهيم على وجهى فى الليل كالضال .. وأخيرا اخترت هذا المكان .. لأنسى نفسى .. وأنسى الحرب .. والذين يصنعونها ..

وسألته :
ــ وهل نسيت .. ؟
فوضع الكأس :
ــ أحاول أن أنسى .. وإننا لا نقاوم الشر .. بل نغذيه .. والحرب من صنع أيدينا نحن البشر .. وعلى الطبقات الكادحة من الشعوب فى العالم كله يقع العبء الأكبر فنحن الذين نصنع القنابل والمتفجرات بأيدينا .. ولذلك نتلقى كل ويلاتها ..
ــ وماذا تفعل إذا اعتدى عليك مثلما اعتدى علينا .. ؟
ــ أين .. ؟
ــ فى حرب السويس ..
ــ هذا شىء آخر .. هل أنت مصرى .. ؟
ــ أجل .. ولقد هوجمنا غدرا .. ولم نكن نفكر فى الحرب إطلاقا ..
ــ إن الموقف هنا يختلف .. وفى هذه الحالة نقاتل إلى آخر رمق ويقاتل معنا حتى الأطفال وأنت تعرف أن العالم كله كان معكم .. فى ذلك الوقت ..

وسألنى بعد أن فرغنا من الطعام وأشعل لنفسه سيجارة :
ــ هل اشتركت فى هذه الحرب كمقاتل .. ؟
ــ كنت فى الدفاع المدنى .. ولكنى لا أعصم نفسى من القلق .. كنت أفكر فى مصير الأسرة بعد أن يذهب عنها الرجل الذى يعولها ..
ــ هذا إحساس طبيعى .. إحساس كل إنسان مقاتل .. وكل ما نرجوه هو الاشتراك فى حرب أخرى .. وأن تعيش البشرية فى سلام ..

ونظر إلى الفتاة .. وهى تقدم لنا القهوة وسألنى :
ــ جميلة ..
ــ غاية فى الجمال .. والدماثة ..
ــ وطوكيو .. ؟
ــ إنها أجمل المدن على الإطلاق ..
ــ تصور هذا الجمال كله .. عندما يذهب به صاروخ واحد .. فى ليلة عاصفة ..
ــ إن هذا محزن حقا ..
ــ والتفكير فيه جنون مطبق .. ولماذا يعيش الناس على هذا الجنون .. وهذا القلق المدمر ..
ــ والخوف من الحرب هو الظاهر فى عصرنا ..

وقال تاكاشى :
ــ هذا صحيح إن القلق طابع العصر حقا .. وهو الذى يدمرنا .. ذهبت إلى هونج كونج فى عمل منذ سنوات .. وأحبتنى فتاة ..
ــ صينية .. ؟
ــ أجل صينية .. وكانت .. قلقة .. تخشى أهلها ... وكنا نتعذب .. ويظهر أثر ذلك فى نفسينا ..

كان الحب مشوبا بالمرارة وهذا عذاب غليظ ..
ــ ولماذا لا تتزوجها .. ؟
ــ إنها لا تحب أن تجىء إلى طوكيو .. وأنا لا أرغب فى العيش فى هونج كونج ..
ــ والنتيجة .. ؟
ــ العذاب .. وهذه هى الحياة ..

وخرجنا نتجول فى المدينة مع أنفاس الصباح .. وقبل أن يودعنى الرجل ويأخذ طريقه قدمت له هدية من صنع خان الخليلى علبة سجائر مفضضة .. فتناولها وهو ينحنى بقامته خمس مرات ..

***

وكنت خارجا عصر يوم من محطة المترو وصاعدا الدرجات سريعا .. عندما قابلت جينا فتاة الملهى هابطة السلم وحدقت فى وجهى وعرفتنى ..

وقالت بعذوبة :
ــ إنك لم تأت كما وعدت .. ؟
ــ سآتى الليلة ..
ــ سأنتظرك ..
ومضت سريعا .. وأنا أسمع وقع أقدامها على الدرج ..

***

وفى الليل ذهبت إلى الملهى .. وكان كعادته ساكنا .. وكان هناك أربعة من الرواد .. يرتدون جميعا الملابس الأوروبية وفى سن متقاربة .. يشربون الخمر ويحادثون فتاتين .. بخلاف جينا التى كانت تجالس الشاب اليابانى الذى رأيته أول مرة ..

فلما رأتنى استأذنت من الشاب وأسرعت نحوى .. فجلسنا فى ركن نتجاذب أطراف الحديث ..

وكان الدخان يملأ المكان .. والنوافذ كلها مغلقة وعليها الستائر الكثيفة.. فشعرت بالضيق .. خصوصا وأن الشاب اليابانى كان يتابعنا بنظرات المغتاظ وينصت لحديثى مع جينا .. ولم أمكث طويلا وهممت بالانصراف ..

فسألتنى :
ــ ذاهب .. ؟
ــ أجل ..
ـ هل أنت متضايق من المكان ..
ــ رائحة الدخان تهيج رئتى ...
ــ يمكن أن نصعد إلى الدور العلوى ...
ونظرت إلى السلالم الخشبية الدقيقة التى تتوسط البناية ..

وقلت لها :
ــ إننى جئت لأعرض عليك نزهة فى الضواحى ..
ــ متى .. ؟
ــ الآن ..
ــ إن الملهى يسهر طول الليل ..
ــ نذهب فى الصباح إذن ..
ــ فى الصباح أشتغل فى مطعم مارتا وأكون هناك فى الثامنة ..

وفكرت ..
تشتغل فى الصباح فى مطعم .. وفى الليل فى ملهى .. وهى فى هذه السن الصغيرة .. ولمن تكدح .. وتحمل نفسها هذا العذاب .. كانت قوية البنية موفورة الصحة وبشرتها الصفراء دافئة ..

وسألتنى :
ــ ما الذى تريده من النزهة فى الضواحى .. ؟
ــ أحب أن أشتم أنفاس الورود هناك وأنت معى .. وأرى بيتا يابانيا .. على حقيقته ..
ــ ترى بيتا يابانيا .. أترغب فى ذلك حقا .. ؟
ــ إنها أحب الرغبات إلى نفسى ..
ــ إذن سنرى بيتا فى ضاحية ..
ــ متى .. ؟
ــ سأحدث والدتى .. وأجيئك بالجواب غدا ..
وتركتها منشرح القلب ..

***

وفى المساء الثانى حدثتنى وهى مسرورة أن أمها ترحب بزيارتى ..

واتفقنا على أن نذهب إلى بيتهم فى يوم الاثنين .. ونتجول ساعة أو ساعتين بالتاكسى قبل الذهاب إلى الضاحية .. وستعفى نفسها من العمل فى الملهى فى هذه الليلة لتكون فى صحبتى ..

***

وانتظرتها يوم الاثنين فى محل أكيرا .. وجاءت فى الميعاد وكانت ترتدى ثوبا أوروبيا بسيطا للغاية .. يكشف عن قوامها النحيل وصدرها الناهد .. وبدت جذابة شهية ..

وركبنا تاكسى انطلق بنا خارج المدينة .. وكنت أحمل هدية لها وهدية لأمها ..

وكانت تود أن ترى هديتها وتفتح العلبة ولكنى أمهلتها إلى أن نصل إلى البيت فظلت تترقب المفاجأة ..

وكان الهواء شديدا فأخذ يداعب شعرها .. فكانت تدفع خصلته بيديها .. فأغلقت النافذة الزجاجية الصغيرة .. وأمسكت بيدها .. فتركتها فى يدى ..

وكان الجو قد تلبد بالغيوم وأخذت الأمطار تهطل بغزارة .. وبدت الأمطار الصغيرة عبر الزجاج وكان الطقس باردا .. وكنت أحس جسمها الحار إلى جانبى ..

وكنت عبر نافذة السيارة أرى البيوت اليابانية الخشبية من طابق واحد .. والبالونات الزاهية والقناديل من كل الألوان على الأبواب الصغيرة وفى مدخل الحدائق .. وكان الطريق يلمع زاهيا متألقا كالأبنوس ..

وكان سائق العربة رجلا مربوعا بيضى الوجه صامتا وكان قد تلقى التعليمات من جينا ثم انطلق لا يلوى على شىء ولامست بطرف شفتى أذنها الصغيرة فظلت جامدة وفمها مغلقا ثم ردتنى بلطف وهى تشير إلى السائق ومرآته ..

وتوقف التاكسى أمام بيت يابانى صغير .. وفتحت الباب جينا وهبطت على الأرض .. وكنت أتأمل قامتها وجمالها والحب الجديد الذى ملأ كيانى ..

وقابلتها سيدة مسنة على الباب انحنت لنا .. ودخلنا فى بهو فسيح تدور أبوابه بالأكر ثم انفرج الباب .. عن حجرة صغيرة أنيقة ذات نافذة زجاجية كبيرة تطل على الحديقة وبدت الورود والأزهار تعطر المكان كله ..

وجلسنا على الحشيات وجاءت لى بقدح الشاى بعد أن غيرت ثوبها الأوروبى ولبست الكومينو .. وتركتنا أمها وحدنا فى القاعة وأخذت جينا تغنى على القيثار .. وأنا أتأمل بشرتها الملساء .. من خلال ثوبها الحريرى .. ووجدت الفرصة مناسبة لأقدم لها الهدية وفتحت العلبة .. ووضعت العقد الماسى الذى اشتريته لها فى عنقها ..

ووضعت الآلة جانبا وهى تطير من الفرحة وأخذت تتزين .. وترجل شعرها .. وكانت هناك مرآة تعكس صورتها وكل جمالها ..

***

وجلسنا نتعشى إلى مائدة واطئة وكان معنا أمها وأخوها الصغير كوزو ..

وبعد العشاء تحدثنا فى كل الشئون وكانت تترجم لأمها حديثى .. واقترب الليل من منتصفه وكنا لا نزال نسمع صوت المطر غزيرا ومتدفقا ..
ومع انهطاله الشديد استأذنت لأعود إلى الفندق ..

ولكن جينا وأمها منعانى من الخروج فى المطر وأعدا لى غرفة خاصة ..

ووجدت نفسى فى غرفة صغيرة جميلة مفروشة بالحشيات على الأرض ..

ونمت بالكومينو .. ولعله من مخلفات المرحوم والد جينا .. وأغمضت عينى ملتذا .. وأنا أشعر بأنى أضع جسمى على ريش النعام ..

وأحسست بالباب الصغير ينفرج .. على الأكر .. ودخلت جينا وكانت قد نسيت أن تحمل الأزهار بعيدا عن الغرفة ..

وشعرت بى فاتحا عينى فسألتنى :
ــ هل أنت صاح .. ؟
ــ إنى أحلم بالمترو .. منطلقا فى الليل ..
ــ لم يعد هناك مترو ..

ورأيت العقد الماسى .. لا يزال على صدرها .. وكانت عيناها تشعان كأنهما جوهرتان فى الضوء الباهت ..

وسألتنى وهى تتثنى :
ــ أتريد شيئا .. ؟
ــ أتمنى لو جلست لنتحدث قليلا .. فلن يأتينى النوم فى هذه الليلة ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سأظل أحلم بك حلم اليقظة كما يحلم المؤمنون بالجنة ..
وجلست على طرف الحشية متربعة صامتة ..

وسألتها :
ــ هل ناموا .. ؟
ــ منذ ساعة ..
ــ ولماذا لم تنامى أنت ..
ــ فكرت فى الأزهار .. إن أنفاسها تؤذيك فى الليل ...
ــ هذا صحيح .. وأنا الآن أشتم عطرك وأنفاسك وحدك استريحى .. واسترخى ..

ووضعت وسادتين خلف رأسها .. ورحت أتأمل فى جيدها الماسى .. وكانت عيناها تلمعان كلؤلؤتين نادرتين .. أما صدرها الأبيض فلم يكن فى مثل هذه الاستدارة الشهية أبدا .. وكورت شفتين كحبة الكرز .. فلمستهما بطرف شفتى .. وأمسكت بيدها ..

وسبحت فى عينيها سحابة من الدموع .. وأنا أشدها إلى صدرى ..

ولقد أحسست بحريتى .. ككائن بشرى .. وبحقى أن أعيش ساعة من حياتى ..

***

وكان ندى الصباح يفضض المدينة وأنا وحدى أدفع الباب الدوار وأدخل فندق دايتشى ..

***

وفى الليل وأنا فى طريقى إلى الملهى الذى تعمل فيه جينا .. وقبل أن أجتاز النفق .. أنقض على الشاب اليابانى جليس جينا ليقتلنى .. وخلصنى منه فى وثبة سريعة تاكاشى وكان مارا فى نفس اللحظة وانتزع من يده النصل الذى كان سيغرسه فى قلبى .. وألقاه على الأرض ..

وتيقنت فى هذه الساعة أن الشاب يعشق الفتاة فى جنون .. وعذرته .. فإن كل إنسان فى العالم يعشق هذه الفتاة لو رآها واشتم رائحة عطرها ..

===============================
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة 21/6/1961 وأعيد نشرها فى مجموعة " عذراء ووحش " وبمجموعة " قصص من اليابان " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================

ليست هناك تعليقات: