الصورة الناقصة
قصة محمود البدوى
ركبت المترو ذات ليلة من نفق جنزا .. وكنت أود أن أقوم بجولة ليلية تحت المدينة الكبيرة .. وأرى ضواحى طوكيو تسبح تحت أضواء الأرض والسماء .. أرى الفوانيس الحالمة على واجهات المنازل ترسل الأنوار الحمراء والزرقاء .. وتحكى بأشكالها قصص الأساطير ، والبالونات من كل الرسوم والألوان تشع بالأنوار ويتساقط عليها المطر .. فيصقلها ويزيدها توهجا وبهجة .. ونزلت من القطار .
ولما وصلت نهاية الجولة .. غرقت بكل حواسى فى هذا الجمال .. ونسيت نفسى حتى انقضى جزء كبير من الليل .
ووجدت مطعما على الطريق .. وكنت أحس بالجوع الشديد .. وأخاف ألا أجد طعاما فى الفندق الذى نزلت فيه فى مثل هذه الساعة من الليل .
فدخلت المطعم .. وطلبت وجبة عشاء يابانية كاملة .. وأحسست بالدفء والجمال حولى .. فأكلت متمهلا .. ولما فرغت من الطعام .. وخرجت إلى المحطة .. وجدت أن القطار الأخير قد مر منذ أربع دقائق .. فاستأت وتملكتنى الحيرة ..
وأخذت أروح وأجىء على الرصيف .. وأنا أفكر فى وسيلة أعود بها إلى المدينة .
وخرجت إلى الشارع لأسأل رجل البوليس .. وكانت المنطقة كلها لا تزال تتلألأ بالأضواء الحمراء والخضراء والزرقاء .. كأنها حبات الزمرد .. والياقوت .. والمرجان .. على صدر حسناء .
والحوانيت لا تزال ساهرة .. والحركة فى الشارع المجاور للمحطة على أشدها .. وشاقنى المنظر كله وأخذ يلبى .. ولكننى أحسست بوطأة البرد وأنا فى العراء .. وتحت السماء المقرورة .. فتحركت أحتمى بالمساكن .. ولم أر أحدا من رجال البوليس أمامى ، ورأيت شابا يتحرك فى الطريق ..
فتقدمت إليه وسألته بالإنجليزية :
ــ ألا توجد قطارات الآن إلى جنزا ..؟
ــ آخر قطار مر منذ لحظات .
ــ والسيارات ..؟
ــ تستطيع أن تركب تاكسى .. ولكن هذا سيكلفك أكثر من ألف ين .. وتستطيع بأقل من هذا المبلغ أن تقضى الليل هنا .. وفى الصباح تذهب بالقطار إلى حيث تريد ..
ــ أتوجد فنادق رخيصة هنا .. فليس فى جيبى الآن .. سوى " ينات " قليلة.
ــ يوجد فندق واحد .. وستذهب إليه وأرجو أن يروقك ..
ومشيت مع الشاب صامتا .. ثم أخذنا نتحدث وقطعنا جولة كبيرة .. ولما بعد بى عن الشوارع الرئيسية ودخل فى الحوارى الضيقة القليلة الضوء المملوءة بالحانات وأماكن اللهو . توجست منه شرا .. وخشيت أن يكون قد تصورنى أمريكيا .. وأنه يقودنى الآن إلى الهلاك .. فعرفته بجنسيتى ..
وقال مبتسما :
ــ أعرف أنك من الشرق ..
ــ من مصر .. ونحن أصدقاء .. ونحبكم .
ــ هذا طبيعى .. ونحن نحبكم أيضا ..
ــ بلادكم جميلة .. كأنما يرسم خطوطها وألوانها رسام عبقرى .. كنت أتوقع أن أرى الثلوج لأرسم لوحة للشتاء ..
ــ إنها لا تثلج الآن انتظر شهرا آخر .. هل أنت رسام .؟
ــ نعم رسام .. ورسمت مشاهد حية .. من حى جنزا .
ــ طوكيو كلها فى هذا الحى .. هل أعجبك ..؟
ــ شىء فوق الخيال .. اعتدت أن أشرب القهوة كل صباح فى مقهى صغير لا يتجاوز حجمه أربعة أمتار .. ولكن أى جمال فيه .. وأى فن .. وأى رسوم على الجدران وأى لوحات .. وأى فنان وضع تصميم المكان ..
ــ يوجد كثير من الفنانين فى طوكيو .. وتستطيع أن تزورهم وترى أعمالهم ..
ــ هل الفندق بعيد ..؟
ــ لا .. لقد اقتربنا منه ..
ودخلنا شارعا صغيرا .. على أبوابه الفوانيس الزرقاء .. وبه أكثر من مرقص ومقهى ورأيت فتاة تقف وراء باب زجاجى دون حركة .. وتصورتها رسما على الزجاج .. فوقفت أمامها . من الخارج .. أتأمل .. فلوحت لى بيدها تدعونى للدخول .. فوقفت مبهوتا ..
وقال لى الشاب :
ــ أتحب أن تدخل ..؟
ــ سأرى الفندق أولا ..
ورجعنا مرة أخرى فى تيه من الشوارع الضيقة .. وشعرت بقلبى يدق بعنف شعرت بالخوف الحقيقى الذى ينتاب الغريب وهو يرافق شخصا لا يأمن جانبه .. وسواء أكان هذا الخوف له سبب معقول .. أو ناتج عن تلف فى الأعصاب .. فإننى أحسست برعشة .. وغرقت فى دوامة من الرعب القاتل ..
وأغمضت عينى برهة ثم مشيت مع الشاب .. وأنا أقول فى نفسى لا بد مما ليس منه بد ..
ولم نبعد فقد دخلنا مرة أخرى فى صف من المنازل الصغيرة المدببة السقوف وعلى واجهاتها الفوانيس .. واجتاز بى عتبة صغيرة من الرخام .. وصعدنا سلمين ثم توقف كاتو .. وأخذ يخلع نعليه .. وأشار بأن أحذو حذوه.. فخلعت نعلى .. واجتزنا صحنا مفروشا بالحصير الجميل ..
واستقبلنا رجل فى الأربعين مربع عريض الصدر .. وكلمه كاتو باليابانية.. فقادنى الرجل وهو يرحب إلى غرفة مفروشة بالحصير .. والحشيات والوسائد.. وكانت المرتبة مفروشة .. فوق الحصير .. وأرض الغرفة خشبية وترتفع عن الأرض بمقدار ثلاثين سنتيمترا ..
فسررت جدا من هذا الجو اليابانى الخالص وسألنى صاحب النزل :
ــ أعجبتك الغرفة ..؟
ــ جدا .. إنها جميلة للغاية ..
ــ كنت أخشى ألا تروقك .. لأنه لا يوجد بها سرير ..
ــ بالعكس .. إنها أعجبتنى أكثر .. كم أجرها فى الليلة ..؟
ــ ألف ين ..
ــ حسن .. والشاى والإفطار ..
ــ هذه الأشياء كلها رخيصة هنا .. ولا تكلف كثيرا .. واطلب ما تحب ..
ووضعت يدى فى جيبى .. وأعطيت "كاتو" مائة ين .. فأخذها وانصرف مسرعا ..
وسألنى صاحب النزل إن كنت أحتاج لشىء وكنت أحس بالبرد فطلبت بعض الشاى .. ودخلت علىّ فتاة جميلة تحمل صينية الشاى ووضعته أمامى على الحصير وصبته فى الفنجان .. وأخذت ترحب بى بالكلام والابتسام وانحناءة الرأس .. وأدركت أنى لا أعرف لغتها فزاد ابتسامها .. ووضعت لى الوسائد .. وخرجت وأخذت أتهيأ للنوم .. ولم يكن معى بيجامة .. فخلعت سترتى وتمددت على الفراش .. ولكننى لم أنم .. وكان النزل هادئا .. وليس به أدنى حركة تدل على وجود نزلاء .. آخرين ..
وأغمضت عينى لأنام .. فعادت إلى ذهنى صورة الفتاة الواقفة على باب الملهى الزجاجى .. وكنت أعرف أن المكان يبعد عنى كثيرا ..
ووجدتنى أنهض وأرتدى السترة .. وأخرج .. وقلت للرجل صاحب المنزل إننى ذاهب إلى مرقص قريب وسأعود .. وأعطيته أجر الغرفة مقدما حتى لا يتصور أننى أخدعه ..
وأسرعت إلى الحانة .. ودفعت بابها الزجاجى .. ووجدت ساحتها صغيرة وفى وسطها بار دائرى .. يقف فيه خمس فتيات .. يقدمن الخمر لثلاثة من الزبائن وكان الضوء ضعيفا .. والدخان يملأ جو المكان .. والهدوء يخيم .. واستقبلت بابتسامة وانحناءة من جميع الفتيات .. ولم أكن سكيرا .. ولا أحب شرب الخمر .. ولا أدرى لماذا دخلت وأنا أعرف أنها حانة .. والواقع أننى لم أجد مكانا غيره ساهرا فى الحى كله .. وترددت قليلا أين أجلس .. وظللت واقفا .. ثم رأيت سلما خشبيا صغيرا .. ملاصقا للفتاة الجالسة على الخزينة.. فصعدته سريعا .. ووجدت فى الدور العلوى .. نفس البار الدائرى .. ونفس الضوء الخافت .. ونفس الرسم على الجدران وكان فى البار ثلاث فتيات فقط .. ورجل واحد .. أخذنى بنظرة سريعة ثم عاد لكأسه ..
ووجدت نفسى أجلس أمام واحدة من الفتيات .. ولعلها جذبتنى بقوة المغناطيس الذى فى عينيها وكانت ترتدى صديرا من الصوف الرمادى .. وبنطلونا أحمر .. كأى فتاة أمريكية من برودواى .. وجلست أنظر إلى عينيها برقة .. كانت وادعة .. ولا يبدو عليها أنها من فتيات البارات .. وأدركت أننى لهذه الوداعة اخترتها .. الغريب يلجأ دائما إلى منطقة الأمان .. ووضعت الفتاة أمامى صحنا من البطاطس المحمر .. ولم تسألنى ماذا أشرب .. ولعلها عرفت أننى لا أشرب على الإطلاق .. وكانت عيناى تسبحان فى الزجاجات التى أمامى تقرأ الأسماء فى هذا الضوء الخافت .. ورأيت بالونة زرقاء مكتوب عليها .. نبيذ وحسان .. فى كل الأركان الدائرة .. وتذكرت أن هذا هو اسم البار ..
وعاد نظر الفتاة على وجهى وسألتنى برقة :
ــ لماذا لا تأكل .. أأجىء لك ببعض الكبد والقلوب المشوية ..
فقلت وأنا أنظر إلى عينيها ..
ــ أجل .. مع كوب من النبيذ ..
ــ أحمر ..؟
ــ أحمر ..
ووضعت الكوب أمامى .. ونظرت إليها .. لم أر فتاة فى مثل جمالها .. لا فى بوخارست ولا فى وارسو .. ولا فى برلين .. ولا فى بودابست .. ولا فى استنبول .. ولا فى هونج كونج ..
وقلت لها وأنا أرفع الكوب إلى شفتى :
ــ ألا تشربين شيئا ..؟
ــ سأشرب ..
وجاءت بشىء أحمر فى قعر الكوب .. ورفعته إلى شفتيها .. تناولت عشر قطرات لا أكثر .. ونظرت باسمة .. أدركت أنها لا تشرب الخمر .. وتعجبت لوجودها فى هذا المكان .. وأدركنى العجب أكثر .. منذ محادثتها فقد بدت على ثقافة عالية ولم تكن تدفعنى إلى الشراب أو تطلب لى المزيد منه كفتيات الحانات .. بل كانت تتركنى بكل حريتى .. وعندما طلبت لها كأسا أخرى رفضت ..
وقالت :
ــ واحد يكفى .. المهم أن نجلس ونتحدث ..
وسألتنى :
ــ متى جئت طوكيو ..؟
ــ منذ يومين ..
ــ ونازل فى أى فندق ؟.
ــ فلم أتذكر اسم الفندق وبحثت فى جيوبى عن البطاقة المكتوب فيها الاسم فلم أجدها .. وفتحت فمى كالأبله ..
وقلت لها :
ــ لا أعرفه ..
فضحكت ..
ــ أتعرف كيف تذهب إليه وحدك ..؟
ــ أبدا .. اعتدت أن أعطى البطاقة للسائق .. وهى مكتوبة باليابانية ..
ــ هل اسمه .. إمبريال .. نيوكوهاما .. جيانسو .. نيكاسيو .. دايتشى .. الإمبراطور ..
وعددت لى مئات الأسماء .
ــ أبدا ..
ــ وكيف ستهتدى إلى حوائجك ..
ــ فى الصباح .. سأتصل بشركة السياحة .. وهى التى تعرف اسم الفندق ..
وعاد إلى قلبها الضحك ..
ــ إن هذا ممتع .. وأين ستقضى هذه الليلة ..؟
ــ فى فندق قريب منكم على الناصية ..
ــ آه .. عرفته ..
ــ هل أطمع فى جولة حول المدينة بصحبتك غدا .. ؟
ــ آسفة لا أستطيع ..
ــ وكيف أراك ..؟
ــ هنا فقط ..
ــ إن بلدتكم جميلة .. لا يشبع الإنسان من جمالها ..
وهنا رن صوت ..
ــ إنك لم ترها وهى مضروبة بالقنابل .. كانت حطاما .. ضربها الأنذال بكل ما لديهم من قوات الجو ..
وتلفت فوجدت الرجل الذى كان يسمر هناك فى الظلام .. ولقد نسيته.. وكان يتكلم الإنجليزية بطلاقة ..
ــ إن هذا كان ردا على بيرل هاربرد .
ــ لا .. إنك لم تر طوكيو .. فى ذلك الحين .. لم يحدث لمدينة كما حدث لها من الضرب الوحشى المركز ..
ــ ولكنها الآن تبدو كأجمل الحسان ..
ــ بقوة سواعدنا بنيناها من جديد .. إن طوكيو .. هى اليابان كلها .. هات كأسا للسيد ياهينا .. ولنشرب نخب طوكيو .. ونخب الشرق كله ..
فرفعت الكأس إلى شفتى ورفعته الفتاة .. وكانت تبتسم .. وقبل أن ينصرف الرجل انحنى لى ثلاث مرات .. فنهضت عن الكرسى وأخذت أرد له التحية بعدد انحناءاته ..
ودخل بعده أربعة شبان المكان .. وكان أحدهم يرتدى معطفا قصيرا أبيض.. فرأيت وجه الفتاة يتجهم .. وجلسوا حول الفتاتين الأخريين سميا ونلدا يصخبون .. ويضحكون .. وانتهى الجو الحالم الذى كنا نعيش فيه منذ لحظات .. وشعرت بالضيق .. ولاحظت علىَّ هينا الضجر ..
فسألتنى :
ــ شعرت بالتعب ..؟
ــ نعم ..
ــ الأحسن أن تستريح ..
ــ وكيف أراك ..
ــ فى انتظارك غدا ..
وأخرجت ورقة بخمسة آلاف ين .. وتناولتها الفتاة وهبطت بها سريعا وسمعت صوتها وهى تحاور صاحبة الحان .. وعادت وقدمت لى أربع ورقات كبيرة وبضعة ينات صغيرة ..
فقلت لها متعجبا ..
ــ إنك لم تأخذى شيئا ..
ــ هذا هو حسابك .. إنك لست بسكير ..
ونظرت إلى عينيها طويلا ..
فسألتنى :
ــ ما اسمك ..؟
ــ لطفى ..
ــ إسمى هينا ..
ــ اسم جميل ..
ونظرت إلى صورة عروس يابانية تغنى بالقيثار .. فى ركن من المكان وقلت لها :
ــ فكرت فى أن أرسمك بالكومينو .. وأرجو ألا ترفضى لى هذا الطلب ..
ــ غدا سنتحدث فى هذا .
وأعطتنى يدها ..
فرفعتها إلى شفتى ..
وعندما هبطت إلى الدور الأرضى نظرت إلى صاحبة الحان طويلا وأنا خارج ..
وقالت برقة :
ــ شرفتنا يا سيد ..
وانحنت الفتاة الواقفة على الباب ..
وقالت :
ــ شكرا يا سيد .. شرفتنا وآنستنا ..
وخرجت إلى الطريق .. وأمامى أضواء قوس قزح .. فى السماء والأرض..
***
وفى المساء التالى لبست « هينا » ثوبا آخر وبدت مجلوة كالعروس من غير أصباغ .. أو أحمر على الشفاه ..
وقالت :
ــ هل اهتديت إلى الفندق ..؟
ــ أجل .. وأفكر فى نقل حوائجى إلى هذا الحى ..
ــ لماذا .. ؟
ــ لأكون قريبا منك ..
وضحكت ..
ــ عشقتنى بمثل هذه السرعة .. إننى أقيم هناك مثلك ..
ــ ولكنك تعملين هنا ..
ــ يمكنك أن تجىء من السابعة وتبقى إلى ما بعد منتصف الليل .. وفى هذا الكفاية ..
ــ كما تحبين ..
ولم يكن بالمكان العلوى أحد سوانا .. وكانت الفتاتان الأخريان أكثر رقة مما قدرنا .. فقد تركانا وحيدين وهبطتا إلى الدور الأرضى ..
وقلت للفتاة ..
ــ أى صورة ..؟ أرسمك .. وأنت لابسة الكومينو ..
ــ ليس عندى كومينو ..
ــ سأشتريه لك .. وأعطيك خمسة آلاف ين على الرسم ..
وخرجت منى هذه الكلمات كالقذيفة بحكم الصنعة .. فاحمر وجهها ..
فتركتها دقيقتين ثم سألتها :
ــ ما رأيك ..؟
ــ دعنى أفكر ..
ــ ها هو عنوان الفندق .. وسأنتظرك فى البهو غدا فى الساعة الحادية عشرة صباحا ..
ــ سأجىء فى الرابعة بعد الظهر ..
قالتها برقة .. وكنت أود من فرط السرور أن أطوقها بذراعى ..
***
وفى الساعة الرابعة مساء رأيتها تدفع الباب .. كانت تلبس جاكتة وجونلة زرقاء وزادها هذا نضارة .. واستقبلتها فرحا .. وكانت خجلى بعض الشىء ثم زايلها الخجل بعد أن شربنا الشاى وتحدثنا .. ثم صعدنا إلى غرفتى.. وأريتها الكومينو الذى اشتريته لها فسرت به .. ودخلت وراء الستر لتخلع ثوبها وتلبسه .
وعندما خرجت كانت أجمل ما وقعت عليه عيناى .
وجلست أمام المرآة تسرح شعرها على الطريقة اليابانية وتبدو فى زينة مناسبة للرداء ومنسجمة معه ..
وأمسكت بالفرشاة وأخذت أعمل .. وأستريح وأجعلها تستريح وتسترخى .. حتى كانت الساعة السادسة .. وكانت عليها أن تذهب إلى عملها . فودعتها على أن تجىء غدا لنكمل اللوحة .
***
ولم أذهب إلى الحان فى تلك الليلة .. جلست فى غرفتى .. وهى أمامى على التابلوه .. وكنت أدخن بشراهة .. وأنظر إلى ما تحت الكومينو .. كنت أفكر فى البشرة الناصعة .. وفى صورة لفينوس العارية ..
كنت أفكر فى صورة أضع فيها كل روحى وفنى .
وجاءت فى اليوم التالى فى الميعاد .. وجلست أرسم بسرعة .. حتى أتممت الصورة ..
وقلت وأنا أضع الفرشاة جانبا ..
ــ هل تساعدينى على أن نكمل هذا العمل .
ــ كيف ..؟
ــ أريد أن أرسمك على الطبيعة .. ولا أحد سيراها هنا .. لأنى سأحمل الرسم معى .. ولا أحد يعرفك هناك ..
ــ لا تقل هذا .. لقد خاب ظنى فيك .. هل أنا محترفة ..؟
ــ العفو .. إننى أريد أن أرسم عذراء .. وأرسم الخفر الذى على وجهها.. والخجل الذى فى عينيها .. وأنا أراها عارية .. أربد أن أرسم هذا .. وهذا لا يأتى إلا منك .. فلا تحرمينى من هذه المنحة ..
ــ هناك كثيرات صنعتهن هكذا .. فاذهب إليهن ..
ــ لا .. أنا لا أريد محترفة .. أريدك أنت وسأعطيك عشرة آلاف ين .. لجلسة واحدة .. وأغمضت عينيها فى غمرة الانفعال تناولت يدها وقبلتها .
وهمست ..
ــ سأنتظرك غدا ..
ــ سأجىء يوم الخميس ..
وخرجت ونسيت أن تأخذ الكومينو معها .. فضممته إلى صدرى ..
وفى يوم الخميس جاءت .. وكان العذاب الأكبر لى ولها لأنها رفضت أن تقف عارية تماما .. ورأيت أن أضع غلالة رقيقة على جسمها فى هذه الجلسة.. لأتفادى غضبها وليكون وجهها طبيعيا ومشرقا .. وأرسم فى هذه الجلسة وجهها وجيدها وكتفيها .. وفى الجلسة المقبلة تكون قد اعتادت وأرفع الغلالة وأكمل الصورة ..
وفعلا رسمت نصفها .. وخرجت مسرعة على أن تعود بعد يومين لتكمل الصورة وتأخذ العشرة آلاف ين ..
وفى الصباح كنت أتجول فى المدينة .. وخرجت إلى حديقة مشهورة .. فرأيتها بصحبة رجل أعمى فى ممشى الحديقة .. وكان واضحا أنه والدها .. وبعدت عنها حتى لا ترانى ..
ظللت ألاحظها من بعيد حتى خرجت بالرجل .. وكان عطفها عليه شديدا .. وحنانها لا يصور ..
وظللت وراءهاحتى أركبته الأوتوبيس وغابا عن ناظرى ..
***
وذهبت إلى المشرب فى مساء اليوم نفسه .. فاستقبلتنى باسمة .. وقلت لها قبل أن أجلس .
ــ لقد رأيتك فى الصباح فى الحديقة ..
ــ أعرف هذا وكنت أود أن أحدثك ولكنك زغت ..
ــ والآن أنا أريد أن أشرب كوكاكولا .. أو عصير الليمون ..
ــ إن فعلت هذا سأطرد من هنا ..
ــ وماذا يحدث لو طردت ..؟
ــ سيموت أبى من الجوع ..
وأخضلت عيناها بسرعة .. ونظرت إليها ثم أطرقت .. وفى يدى السيجارة ..
وقالت وهى تبلع عبراتها ..
ــ أصيب أبى بالعمى فى الغارات المدمرة على طوكيو .. وأمى عجوز فوق الستين .. وليس لنا معاش .. أو أى شىء نعيش منه .. ولهذا أنا أعمل فى الصباح والمساء فى مطعم أوتاكا وفى الليل أجىء إلى هذا المشرب .. لأوفر لأبى مبلغا من المال .. ليسافر به .. إلى موسكو .. وهناك يسترد بصره فى معهد " فيلاتوف " .. ولقد وفرت مبلغا ، والخمسة آلاف التى أخذتها منك مع العشرة آلاف التى سآخذها غدا ، أكملت ثمن التذكرة وعجلت بسفره إلى هناك .. فأنت الآن إنسان لا ينسى .. جزء من حياتى وسعادتى ..
وشعرت بقلبى يتمزق .. وقلت لها :
ــ أرجو أن تسكتى ..
وأخذت أدخن .. وأحكى لها ما شاهدته ورسمته فى « جنزا » وفى الضواحى وأريتها بعض الرسومات ..
فقالت باسمة :
ــ غدا لن تكون وحدك .. سأرافقك فى كل جولة لأنه يوم راحتى ..
وتصورت نفسى وهى بجوارى رشيقة جميلة كالطاووس .. بشعرها وحسنها .. جالسة معى فى السيارة .. والمترو وعلى العشب فى الحدائق .. وتحت السماء والمطر يتساقط علينا .. وأنا أحميها منه بمعطفى وصدرى .. وشعرت بسعادة .. غيبتنى عن وعيى ..
وفجأة سمعت موسيقى راقصة فى الدور الأرضى .. وسمعت بعدها ضجة وصعد بعض الشبان اليابانيين إلى الدور العلوى الذى نجلس فيه .. ورمقنى واحد منهم بنظرة قبل أن يجلس .. وطلبوا الشراب .. وجلسوا جميعا يشربون ويصخبون ولم تغير "هينا" مكانها ، ولم تقدم لأحد منهم شيئا ، تركتهم جميعا للفتاتين الأخريين ..
وجلست حوالى ساعة وأنا أقدر خروجهم ، ولكنهم بقوا يصخبون .. وكان نظرهم يقع على ، ثم يعودون إلى سمرهم .. وحديثهم ..
ووعدت " هينا " على لقاء فى الصباح .. ثم أخرجت محفظتى وأعطيتها ورقة مالية لتدفع الحساب .. ونزلت إلى الخزينة ولبست معطفى .. ونزلت السلم .. ولما رأيتها لا تزال واقفة على الكيس .. تجادل صاحبة الحان .. انتظرت على السلم .. وكان وجهى إليها .. وسمعت حركة شديدة من الشبان فى الدور العلوى ، ثم ظهر واحد منهم على البسطة العليا من السلم ، وكان يرتدى معطفا أبيض .. ورآنى فأخذ يهبط السلم ببطء وحولت وجهى عنه .. وأنا أحس بهم جميعا يهبطون ، وراقنى منظر رجل سكير أخذ يغنى .. وقد أغلق عينيه .. وفجأة أحسست بيد " هينا " تجذبنى بقوة وتدفعنى بعيدا عن السلم .. وسقط الشاب لابس المعطف بكل قوة .. مدحرجا ومقلبا حتى وصل أرض الحان ..
وهبط من كان وراءه .. وضرب " هينا " على وجهها بوحشية .. فلم أملك نفسى وصفعته وتشابكنا فى عراك دموى .. واختلط الحابل بالنابل .. ورحت فى غيبوبة ..
***
ولما أفقت وجدت نفسى مستريحا على كرسى ببدلتى .. وذراعى مربوطة إلى صدرى وكانت " هينا " بجوارى وعلمت أننى فى بيتها .. وأنها حملتنى بعد تضميد الجرح إلى هنا .
وقالت لى باسمة :
ــ لماذا ضربته .. كانوا سيقتلونك ..؟
ــ لو لم أفعل هذا لانشل ذراعى من الغيظ ..
ــ أعرفت لعبتهم ..؟
ــ أجل .. كان سيهبط علىّ من فوق بكل قوته كأنه لا يكاد يتماسك من السكر .. فنقع معا على الأرض ..
ــ وفى أثناء ذلك تطير المحفظة بكل ما فيها من نقود ..
وتحسست جيوبى ..
وقلت لها :
ــ لقد طارت فعلا ..
ــ لا تحزن .. سنستضيفك هنا حتى تسافر ..
ــ والحمد لله .. إن تذكرة العودة محفوظة فى الفندق ..
وضحكت هينا ..
ــ عظيم .. إذن لم تخسر شيئا من جراء هذه المعركة ..
ــ لن أدخل حانة مرة أخرى فى حياتى حتى وإن كنت أنت الساقية ..
ــ وأنا لن أكون ساقية بعد اليوم .. سأكتفى بعملى فى المطعم ..
وتناولت يدها .. وضغطت عليها .. ورأيت عينيها تتألقان بالجمال والحب وظلت ممسكة بيدى .. ثم دفعتها فى جيبها وأخرجت المحفظة ووضعتها فى مكانها من سترتى ..
وقالت برقة :
ــ والآن متى نكمل الصورة ..؟
ــ لن نكملها ..
ــ كيف ..؟
نظرت إلى مستغربة ..
ــ لقد قررت هذا .. قبل أن يقع الحادث .. إن أعظم صورة للفنان هى التى لم تكمل .. لأنها الصورة الوحيدة التى تعيش فى قلبه ووجدانه .
وتناولت بذراعى السليمة المحفظة وأعطيتها ورقتين بعشرة آلاف ين .. ورفضت أن تأخذ المبلغ .. وتحت الإلحاح الشديد قبلت .. ولما اقتربت من ذراعى الجريح ومسحت عليه بيدها .. وأعطتنى شفتيها فى غمرة عواطفها الجائشة .. قبلت شعرها .. وجيدها .. ولم أشأ أن أطفئ النار المشتعلة فى قلبى..
=================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب 16/11/1958 وأعيد نشرها بمجموعة قصص محمود البدوى " الأعرج فى الميناء " 1958 وبمجموعة قصص من اليابان من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ سنة 2001مكتبة مصر بالقاهرة
=================================